جاء أوباما إلى القاهرة
ليلقي خطابه الذي وصف بالتاريخي حتى قبل أن يلقيه، وهلل الليبراليون العرب
كثيرًا بخطاب أوباما حتى قبل أن يطَّلع أوباما نفسه عليه، والمفارقه
العجيبة أن من هلل لأوباما قبل وبعد الخطاب، هم من هللوا أيضًا لبوش عندما
كان في السلطة، أما تيار من اصطلح على تسميتهم إعلاميًا بتيار الممانعة مثل
حماس وغيرها، فظل موقفهم هو الآخر واحدًا فأوباما عندهم هو وجه العملة
الآخر لبوش كلاهما يمثل المصالح الأمريكية ولكن كلاً بلغته.
لكن لماذا أرادت أمريكا أن
تغير لغة خطابها للعالم العربي والإسلامي؟ ولماذا جيء بأوباما ليقود
الولايات المتحدة في تلك المرحلة التاريخية الصعبة من تاريخ أمريكا؟
من كتب خطاب أوباما: لا شك أن
خطاب أوباما حيك وكتب بدقة منتاهية فهو لم يستعمل عبارات بوش السابقة مثل
الحرب على الإرهاب، وأشاد بحضارة الإسلام واستشهد بعدد من الآيات القرآنية
في خطابه.
فمن كتب خطاب أوباما بتلك
الدقة وهذه البلاغة المنتاهية؟ فأمريكا بعد ثماني سنوات من إدارة بوش بكل
ما تحمله من هزائم حتى على المستوى الأخلاقي ـ وما فضائح سجني أبي غريب
وجوانتنامو منّا ببعيد ـ وقعت بين خيارين:
إما أن تعترف صراحة بهزيمتها
وتسحب جنودها من العراق وأفغانستان وتسحب مشروعها حول الشرق الأوسط الكبير
أو تستمر في تلك المشاريع التي ستؤدي إلى توالي الانكسارات.
فتفتقت ذهنية صانعي السياسية
الأمريكية عن طريق ثالث وهو أن تنسحب أمريكا لكن ليس بصفة المنهزم، ولكن
بصفة العودة إلى القواعد الأخلاقية والمُثل الديمقراطية وحق الشعوب في
العيش بسلام وحوار الحضارات. لذلك جيء بأوباما لأنه أمهر من سيؤدي هذا
الدور، فبشرته السوداء وجذوره الأفريقية ستجعل المشاهد يصدق هذا اللاعب
الجديد على مسرح السياسية الأمريكية أكثر من أي شخصية أخرى.
لذا نستطيع أن نقول: إن صمود
الشعب الفلسطيني والعراقي والمقاومة الشديدة التي واجهها المشروع الأمريكي
في المنطقة والاستنزاف الحاد الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي نتيجة تلك
المقاومة هي التي دفعت أمريكا إلى تغيير لغة خطابها.
وهي التي خطت أولى فقرات هذا الخطاب.
تاريخيًا: نقل الجبرتي أن
نابليون عندما دخل إلى مصر جمع العلماء والمشايخ وألقى فيهم خطابًا
تاريخيًا استفتحه بالبسملة, استشهد فيه بالآيات القرآنية قائلاً: (بسم الله
الرحمن الرحيم.. لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه.. أيها
المشايخ والأئمة قولوا لأمّتكم أن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون،
وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي
كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا
منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة
المسلمين).
فنابليون الذي خرب الأزهر
الشريف واتخذ من أروقته اسطبلاً لخيول جنوده، وهو أول من بشر بوطن قومي
لليهود في فلسطين قبل وعد بلفور الإنجليزي بعشرات السنين، يبدأ خطابه
بالبسملة ويستشهد بالقرآن، بل يذهب أبعد ويدعي أنه خبر كرسي البابا في روما
لأنه كان يدعو لقتال المسلمين. وهذا حاكم عربي آخر كان يقول بأنه سيلقي
العصابات الصهيونية في البحر وملأ الدنيا صياحًا بالشعارات القومية، وبعد
هزيمته أمام إسرائيل هزيمة نكراء قتل على إثرها عشرات الآلاف من جنوده ودمر
جيشه بالكامل حتى أنه ما من أسرة في بلاده إلا وقد فجعت في أحد أبنائها،
عندها خرج عليهم في مسرحية خطابية مدروسة معتذرًا ومعترفًا، فنسي الناس كل
خطاياه في حقهم وخرجوا في مظاهرت مطالبين باستمراره في الرئاسة. وها هو
أوباما الذي تعامل مع الإسلام كأنه تهمة أو تشهير به إبان الحملة
الانتخابية، ضرب على نفس الوتر، وانتهج نفس النهج، وعلم طبيعة الشعوب
والنخب العربية وكيف يتعامل معها، فخرج بخطاب لم يتجاوز الساعة حقق به
نجاحات لم تكن تستطيع آلاف المعدات والآلات العسكرية تحقيقه، وكسب ود
وتعاطف كثير من السذج، وغسل وجه أمريكا البغيض في العالم العربي بعد أن
لوثته دماء الشهداء في العراق وفلسطين وأفغانستان بل دماء السجناء في أبي
غريب وجوانتنامو وأعطى الليبراليين الجدد في العالم العربي مادة خصبة
سيظلون يتحدثون عنها عشرات السنوات المقبلة، بل خرج علينا بعضهم بالمطالبة
بإعطاء كل التنازلات المطلوبة لأوباما حتى لا نحرجه أمام معارضيه مقابل ما
قدمه لنا من وعود، رغم أنه لم يقدم شيئًا إلا الخطابات والكلمات، ولم يتحقق
شيء في الواقع إلا ما كان في مصلحة أمريكا ومخطط له من قبل، ولنا أن نلاحظ
أن الاتفاقية الأمنية بشأن الخروج من العراق أقرت في عهد سلفه بوش.
واقعيًا: واقعيًا وعلى مستوى
القضايا التي تحدث عنها أوباما، لن نجد أي جديد حمله خطابه في القاهرة إلا
كلامًا مرسلاً حول احترام الإسلام المتسامح، وضرورة تعاون الحضارات،
والاستشهاد بآيات من القرآن، ولعل القضية الأهم التي تحدث عنها والتي من
الممكن أن ننتظر هل سيحول أوباما شعاراته التي أطلقها حولها إلى واقع ملموس
هي القضية الفلسطينية. الكثيرون تحدثوا عن تحول أمريكي تجاه القضية
الفلسطينية، وأبرز هذا التحول هو المطالبة بحل الدولتين والسعي إلى تحقيقه،
والمطالبة بوقف الاستيطان. أما حل الدولتين فقد دعا إليه رئيس الوزراء
السابق توني بلير من قبل حيث قال يجب: إنقاذ "إسرائيل" من نفسها؛ لأنه لو
لم يكن هناك حل الدولتين، فإن البديل هو حل الدولة الواحدة متعددة
القوميات، وهذا يشكل خطرًا ديموجرافيًا على "إسرائيل"، وإن لم يكن هناك حل،
فهي دعوة لسيادة منطق المقاومة وهو بدوره خطر على "إسرائيل". فحل الدولتين
الذي دعا إليه أوباما في خطابه، سيدعم من موقفه وسيظهره أمام العرب أنه
جاء بتحول حقيقي، وأنه لأول مرة تعارض الإدارة الأمريكية إسرائيل وتحملها
على تحقيق حل نهائي للقضية الفلسطينية، في المقابل ستتكاتف جيمع القوى
الدولية والإقليمية على حصار المقاومة وطرحها خارج اللعبة بحجة أن القضية
قد انتهت وأصبحت هناك دولة فلسطينية. وهو ثانيًا سيطالب العرب بتقديم قدر
أكبر من التنازلات، في الوقت التي ترفع فيه إسرائيل سقف مطالبها، وهو ما
نلاحظه الآن من رفض فكرة الدولتين ووقف الاستيطان من قبل الحكومة
الإسرائيلية على الرغم أن الاستيطان لم يتوقف أبدًا في الأراضي الفلسطينية،
ففي مؤتمر أنابوليس تعهد الإسرائيليون بوقف الاستيطان، وهو ما لم تفعله
الحكومة الإسرائيلية التي وقعت على الاتفاق، والفرق في موقف الحكومات
الإسرائيلية السابقة، والحكومة الحالية هو الموقف اللفظي، فسابقًا كانت
إسرائيل تتعهد وقبل أن يجف حبر التعهدات تكون قد انتهكته، فهي توقع من جانب
وتفعل ما تريده من جانب آخر، أما الآن فهي ترفض حتى هذا التعهد اللفظي،
والرأي الأقرب في تحليل هذا الموقف أن إسرائيل تريد أن ترفع من سقف
مطالبها، حتى يبدو الرئيس الأمريكي في النهاية كأنه حمل إسرائيل على ما تكن
تريده أو توافق عليه.
ثم ما هي الدولة الفلسطينية
التي يتحدثون عنها؟هي عبارة عن كانتونات صغيرة مرتبطة اقتصاديًا وأمنيًا
بإسرائيل ومحاصرة من البر والبحر والجو. هذا هو الجديد الذي جاء به أوباما،
جاء بالسلاح الذي جُرِّب من قبل كثيرًا مع الشعوب العربية وأثبت نجاعته
هو: تكلم تكلم تكلم وألق بالوعود وستجني كل شيء مقابل تلك الكلمات، افعل أي
شيء وخذ كل شيء ثم اعتذر وأظهر تعاطفك وستمنحك تلك الشعوب كل صكوك الغفران
والرحمة بل ربما تخرج هاتفة باسمك، وإن غدًا لناظره قريب.